-->
زهرة الأمة زهرة الأمة
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

تأثير الإعلام على عقول الشباب / أفيون هذا الزمان







تأثير الإعلام على عقول الشباب / أفيون هذا الزمان


تتبارى أجهزة التليفزيون والإذاعة والسينما وصفحات المجلات والجرائد على شيء واحد خطير هو سرقة الإنسان من نفسه. شد عينيه وأذنيه وأعصابه وأحشائه ليجلس متسمرا كالمشدوه أمام التليفزيون أو الراديو أو السينما، وقد تخدرت أعصابه تماما، كأنه أخذ بنجا كليا وراح يسبح بعينيه مع المسلسلة، ويكد ذهنه متسائلا: من القاتل، ومن الهارب. وبين قاهر الجواسيس، وريتشارد كامبل، والأفيشات العارية في المجلات، والعناوين الصارخة في الجرائد ينتهي اليوم والليلة، ويعود الواحد إلى فراشه وهو في حالة خواء وفراغ وتوتر داخلي مجهول السبب، وحزن دفين كأنه لم يعش ذلك اليوم قط. والحقيقة أنه لم يعش بالفعل، وأن حق الحياة سلب منه، وأنه سلب من نفسه، وأخرج عنوة وألقي به في مغامرات عجيبة مضحكة، و تساؤلات لا تهمه على الإطلاق. من الذي قتل شهيرة هانم! و لماذا تخون كلوديا كاردينالي زوجها في رواية (( الذئب في فراشي )) ؟ و أين الكنز في مسلسلة عبيد الذهب؟ و أين الحقيقة في رواية ارحمني يا حبيبي؟ ويمر اليوم تلو اليوم. وتظل هذه الأجهزة تقوم بما يشبه العادة السرية للمتفرجين، وتغرقهم في نشوات مفتعلة إلى درجة التعب، ثم تلقي بهم إلى الفراش آخر الليل منهوكي الأحاسيس، لا يدري الواحد منهم ماذا به بالضبط. لماذا يشعر بأنه مجوف تماما. وأنه لا يعيش أبدا، وأنه لا يقول ما يريد أن يقوله، ولا يسمع ما يريد ان يسمعه، وإنما هو يربط في أرجوحة تظل تدور به دورانا محموما حتى يغمى عليه تماما وينسى ما كان يفكر فيه، وما كان يريد أن يقوله، وما كان يريد أن يسمعه، وما كان يملأ منه القلب والعقل. ويتحول إلى حيوان أعجم مربوط العقل والإحساس إلى هذه الأجهزة الغريبة التي تفتعل له حياة كلها كذب في كذب. وهذه الظاهرة ظاهرة عالمية، بل هي من سمات هذا العصر المادي الميكانيكي الذي تحولت فيه أجهزة الإعلام إلى أدوات للقتل الجماعي. وهو نوع من القتل الجميل الرائع. تخنق فيه العقول بحبال من حرير، وتخنق الخيالات بالعطور الفواحة. وتخاط فيه الشفاه بجدائل من شعر بريجيت باردو، وأرسولا انرس. وكلما زادت مقاومة المتفرج لهذا الأفيون زاد المخرجون من المساحة العارية المسموح بها من صدر الممثلة ومن ساقيها، وسكبوا كمية من الدم أكثر في رواياتهم، وكمية من البترول المشتعل أكثر على أعصاب الناس. وحينما تنفجر الأعصاب في ظواهر متشابهة مثل ظاهرة الخنافس والهيبز، ورقصات الجرك المجنونة، وأدب الساخطين والغاضبين و اللاعنين، فهي دائما نتائج ذلك البخار المضغوط في جماهير الشباب التي قضي عليها بأن تعيش أسيرة عنكبوت الإعلام، و الأخطبوط ذي الألف اسم. الإذاعة و السينما و الجرائد. ذلك السجن ذي القضبان الجميلة من الأذرع العارية في المجلات و الروايات لتعيش معزولة عن معركة المصير و عن الإدلاء برأي في مأساة الحياة و الموت التي تجري على مساحة العالم كل يوم. و حينما يدور الكلام عن عقار الهلوسة و الماريجوانا، و الحشيش، و الهيروين، و الكوكايين، و العصابات التي تروجه، فإنهم ينسون دائما مخدرات أكثر انتشارا و أخطر أثرا. مخدرات تدخل كل بيت من تحت عقب الباب، و تقتحم على كل واحد غرفة نومه، و تزاحم إفطار الصباح إلى معدته و فنجان الشاي إلى شفتيه. تلك هي وسائل الإعلام التي تكاتفت فيما بينها – بتعاقد غير مكتوب – على أن تقتل الناس بقتل وقتهم، و تميتهم بالضحك و الإثارة و النكتة البذيئة، و تلك الكلمة الغامضة اللذيذة التي اسمها التسلية. و تحت شعار قتل الوقت يقتل الإنسان، و يراق دم اللحظات، و يسفك العمر، فما العمر في النهاية إلا وقت محدود. و ما الإنسان إلا فسحة زمنية عابرة إذا قتلت لم يبقى من الإنسان أي شيء. و مسئولية كل مفكر و كاتب أن يخرج على الخط، و يتمرد على هذا الإتفاق غير المكتوب بقتل الوقت في محاولة شريفة لإحياء وقت الناس بتثقيفهم و تعليمهم و البحث عن الحق، لا عن التسلية و إشراك الناس في مأساة مصيرهم، و إعادة كل واحد إلى نفسه و قد ازداد ثراء و وعيا لا سلبه من نفسه و سرقته من حياته، و رفع شعارات الحرية لتفسح الروح الإنسانية عن مكنونها. على وسائل الإعلام أن تتحول من أفيون إلى منبه يفتح العيون و الأحاسيس على الحقيقة، و يدعو كل قارئ إلى وليمة الرأي و يدعو كل عقل معطل إلى مائدة الفكر، فتكون كرحلة تحشد الحماس عند كل محطة تقف عندها لا كخيمة للغاز المسيل الدموع مضروبة على الناس أو قنابل دخان تطلق للتعمية. إن حضارة الإنسان و تاريخه و مستقبله رهن كلمة صدق و صحيفة صدق و شعار صدق. فبالحق نعيش، و ليس بالخبز وحده أبدا. و إذا كان السؤال المطروح الآن: ما هي صحافة اليوم؟ فهأنذا أقول لكم الجواب: أن نقول الحق. و أن نقول الجد. و أن نقول المفيد و النافع و الصحيح. و أن نحيي وقت القارئ لا أن نقتل وقته.


  1. اي والله صحيح يجب علينا أن ننهض من غفلتنا ونفيق من سباتنا ؛ إنه وقت الجد فعلاً كفانا من الهزل والعبث...

    ردحذف

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

زهرة الأمة

2016